التوراة وشعب الله المختار
تعتبر التوراة “خمسة أسفار موسى” أساس الشريعة والتاريخ الديني عند بني إسرائيل، وقد حملت بين طياتها قصصاً ومواعظ وتعاليم إلهية شكلت هوية هذا الشعب، إذ تروي –كما أسلفنا سابقاً-قصص الخليقة والتكوين، ونشأة بني إسرائيل، وعلاقتهم بالله، والتشريعات التي بُنيت عليها حياتهم الروحية والاجتماعية.
والسفر الثاني من الشريعة المقدسة “سفر الخروج”، الذي يروي قصة خروج شعب بني اسرائيل من أرض مصر، وتحررهم من عبودية فرعون، فقد اختارهم الله ليكونوا شعبه الخاص، وصنع لأجلهم الآيات والمعجزات والعجائب من أجل خلاصهم من العبودية المصرية.
لقد وعد الله هذا الشعب بأرض الميعاد “ارض كنعان”، شريطة أن يسلكوا طريق الله “الحق”، فأنزل عليهم الله بالتوراة: الأحكام والوصايا والتعاليم والمحللات والمحرمات، كما ساعدهم في بناء خيمة الاجتماع من أجل أن يأتي من السماء ويسكن معهم، ويقودهم في حرب مقدسة لامتلاك الأرض، ومن ثم يمنحهم الأرض والسلام.
ويعتبر هذا السفر من أهم اسفار التوراة، إذ يوضح السمات المحددة لهوية شعب بني إسرائيل، مستعرضاً ذكريات المشقة والهروب من الاستعباد، إلى عهد ملزم مع الله، الذي يختار إسرائيل، وإرساء حياة المجتمع والمبادئ التوجيهية لاستدامتها.
فقد خرج نحو مليوني نسمة من شعب بني اسرائيل من تحت سيطرة العبودية في مصر، لرؤية نور الحرية والاستقلال، وبناء دولتهم في أرض الميعاد، رغم أنه لم يكن سهلاً تحريك هذا العدد الهائل من الناس.
وقد اختُتم السفر الأول من التوراة وهو “التكوين” بموت يوسف، الذي استحلف أخوته بني اسرائيل قائلاً: “الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا”، وبما أن يوسف كان نبياً يعلم بالغيب، أدرك بحسه النبوي أن شعب بني اسرائيل سيرحلون من مصر ذات يوم، ويتركون عظامه، لذلك اوصاهم بحمل رفاته معهم، ليدفن في الأراضي المقدسة.
خرج شعب بني اسرائيل من مصر بقيادة موسى الرسول من محطة رعمسيس متجهين الى أرض كنعان، ووصلوا إلى محطتهم الثانية “سكوت”، الواقعة على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، أي الساحل الجنوبي لشبه جزيرة سيناء، والمعروفة الآن بمدينة العريش، لأن معنى سكوت بالعربية عريشة.
وعند هذه المحطة “سكوت”، كان يجب أن ينطلق موكب مسيرة شعب بني اسرائيل الى الأراضي الكنعانية، الا انه توقف فجأة، وحار نبي الله موسى متسائلاً عن السب؟ هنا حضرت شارة بنت آشر وقالت للرسول: “لقد استحلف يوسف إخوته قبل وفاته باصطحاب رفاته معهم عند خروجهم من مصر، ليدفنوها في الأراضي المقدسة”.
حينئذ علم موسى الرسول سبب تعطيل المسيرة، وقرر الرجوع بشعب بني اسرائيل الى مصر مجدداً، من اجل أخذ عظام يوسف معه، لكنه لا يستطيع أن يسير بنفس الطريق التي أتى منها، خوفاً من انتقام المصريين لشعبه، لذلك قرر الرجوع الى مصر، باختراق صحراء شبه جزيرة سيناء.
ولكي يحمي الله هذا الشعب من الجو الصحراوي، صنع لهم عمودين: عمود نار ليحميهم من البرد القارس ليلاً، وعمود غمام من أجل حماية هذا الشعب من الجو الصحراوي نهاراً.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يصنع الله هذين العمودين لشعب بني إسرائيل منذ خروجهم الأول من مصر؟
والإجابة على سؤالنا هذا تكمن في المسار الأول الذي سلكه هذا الشعب من محطة رعمسيس ذات الجو المعتدل، حيث سار الموكب في طريق بري يقع بين البحر الأبيض المتوسط وبحيرة البردويل، للوصول إلى محطة سكوت (العريش)، فمن الطبيعي أن يكون المناخ جميلاً ومعتدلاً في هذه المنطقة، كونها تقع بين البحر والبحيرة، فلا حاجة هناك إلى الحماية من الطقس سواء بأعمدة نارية أو من الغمام.
وبما أن موسى الرسول اختار المرور عبر شبه جزيرة سيناء للرجوع الى مصر، حتى لا يسلك نفس الطريق التي خرج منها اول مرة، خوفاً أن يلحق بهم المصريون، حيث جاء في الشريعة المقدسة قولها: “وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة، لئلا يندم الشعب إذا رأوا حرباً ويرجعوا الى مصر، فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف”. (خروج 13: 17).
لذلك، ارتحل الشعب من سكوت وقبل نزولهم في “ايتام” المحطة الثالثة من هذه المسيرة، والتي تقع على طرف البرية في مصر، أخذ موسى عظام يوسف من مصر معه، وكان الله يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، ويسير ليلاً في عمود نارٍ ليضيء لهم، حتى لا يتوقف سيرهم نهاراً وليلاً، ولم يبرح عمود السحاب نهاراً، وعمود النار ليلاً من أمام الشعب.