المعرفة البشرية.. ما بين التوراة والتلمود
في بحثنا هذا، ربطنا منبع المعرفة في العالم بالتوراة، كونها المصدر الأساسي الذي انطلقت منه الشرائع السماوية، غير أن اليهود يذهبون إلى القول إن المعرفة البشرية تنبع من مصدرين رئيسيين هما: التوراة والتلمود، لكن هذا الادعاء لا ينسجم مع الواقع ولا يتوافق مع الحقيقة الدينية ولا التاريخية.
فالتوراة، المكونة من خمسة أسفار موسى “التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية”، والمعروفة بـ “التوراة المكتوبة”، أو ما يُعرف في المسيحية بـ “العهد القديم”، تمثل رسالة إلهية متكاملة تربط ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا أوجد التلمود اليهودي في هذا العالم؟ او ما هي مساهمته في المعرفة حتى يرتبط مع التوراة كمصدر ثانٍ لها؟
التوراة هي كلام الله، انزلها الله على نبيه موسى الكليم لتكون نوراً وهداية لشعب بني إسرائيل، فيجد الانسان بين سطورها ضالته المنشودة، وتجيب عن تساؤلاته من جميع النواحي الدينية والدنيوية على حد سواء.
أما التلمود فلا يعدو كونه مجموعة من التفسيرات والشروحات، لما جاء في الشريعة المقدسة “التوراة” ليس أكثر، وقد دونها الحاخامات ورجال الدين اليهود، شأنهم في ذلك شأن شأن السامريين الذين فسروا التوراة وفق اجتهادهم ومعرفتهم.
لذلك جميع هذه التفسيرات سواء صدرت عن حاخام يهودي أو كاهن سامري، تبقى في نهاية المطاف اجتهادات بشرية لفهم كلام الله في التوراة، وشتان ما بين كلام الله وتفاسير البشر، لأن الأول مطلق في قدسيته، والثاني نسبي في إدراكه وتعبيره.
يُعد سفر التكوين أول اسفار الشريعة المقدسة، وهو المصدر الرئيسي للرواية الدينية، فقد جاء ليثبت أن الانسان في نظر الله ليس مجرد كائن عادي وسط ملايين المخلوقات الأرضية منها والسماوية، بل مخلوق متفرد، إذ يجمع بين الروحانية في الجسد، والسمات السماوية في الروح.
يروي هذا السفر حقائق هامة جداً، عن حياة البشرية، وكيف بعث الله الكون والخليقة، وبداية التاريخ الانساني وتسلسله، واصول شعب بني اسرائيل، بلغة واضحة وبسيطة تخاطب العامة، وبمضامين ثرية تغني الدارسين والباحثين والمتأملين.
وبذلك، دحض الاساطير التي كانت سائدة قبل نزول التوراة، حيث يحوي بين سوره وآياته، روايات تتعلق بآباء وأجداد شعب بني اسرائيل، ويُختم بقصة يوسف الذي جعله فرعون حاكماً على أرض مصر.
حين تولى يوسف السلطة في مصر، وهو في الثلاثين من عمره، وما أن انتهت سنوات الشبع السبع، وابتدأت سني الجوع، طلب يعقوب من أولاده النزول الى مصر، ليشتروا قمحاً من هناك قائلاً لهم: “لنحيا ولا نموت”.
هناك تعرف يوسف على اخوته، ولما اشتد الجوع في الأراضي الكنعانية، طلب من اخوته أن ينزل والده يعقوب الى مصر مع عائلته للسكن فيها.
فارتحل اسرائيل وكل ما كان له، وأتى الى بئر السبع، وذبح ذبائح لإله أبيه اسحاق، فكلم الله اسرائيل في رؤى الليل وقال: “يعقوب، يعقوب! لا تخف من النزول الى مصر، لأني اجعلك أمة عظيمة هناك، أنا انزل معك الى مصر، وأنا اصعدك أيضاً”.
فقام يعقوب من بئر السبع، وكل نسله معه، بنوه وبنو بنيه معه، وبناته وبنات بنيه وكل نسله، وكان عددهم سبعون فرداً، جاء يعقوب بهم معه الى مصر، فأسكن يوسف أباه وإخوته واعطاهم مُلكاً في ارض مصر، في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس كما أمر فرعون.
عندما قارب يوسف على الموت، أوصى إخوته: “أنا أموت” ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض الى الأرض التي حلف لإبراهيم واسحاق ويعقوب، واستحلف يوسف بني اسرائيل قائلاً: “الله سيفتقدك فتصعدون عظامي من هنا، ثم مات يوسف وهو ابن مئة وعشر سنين، فحنطوه ووضع في تابوتٍ في مصر.