تسلسل الخليقة 2

 تسلسل الخليقة 2

 “قايين وهابيل”

تكمن عظمة الشريعة  وبلاغتها في سردها لترابط  الأحداث ، حيث تسلسل الأحداث ليس عبثاَ، بل لاستخلاص العبروالدروس والعمل بها لتنظيم الحياة الدينية والدنيوية.

إن اول حادثة في التاريخ هي اغواء الحية لآدم وحواء ليأكلا من الشجرة المبهجة للعين والشهية للنظر ” شجرة معرفة الخير والشر”، التي اوصاهم المولى بعدم الأكل منها. ومع ذلك أكلا من ثمرها، وكان حكم المولى على آدم بأن تكون الأرض ملعونة بسببه، وبالتعب يأكل كل أيام حياته، وعلى حواء بالتعب والألم في حبلها وولادتها، واشتياقها لزوجها، وعلى الحية باللعنة من جميع البهائم.

ان مخالفة آدم وحواء لوصية المولى هذه، أثر في مجرى حياة البشرية جمعاء، حيث فرض الله على الانسانية حكم الموت، بقوله: “انك من التراب والى التراب تعود” ( تكوين 3: 19)

أما الحادثة الثانية في التاريخ والتي روتها الشريعة المقدسة ، فكانت قصة الصراع التربوي لعدم توفر شريعة يقتدى بها، لقد كانت قصة صراع الاخوة بين الانسان وأخيه الانسان وكأنه صراع البقاء من أجل الحياة، جرت هذه الحادثة بين الاخوة قايين وهابيل،  عندما قدم قايين من ثمار الأرض قرباناً لله دون  اهتمامه باختيار أجودها في المقابل قدم أخاه هابيل قربانا لله من أبقار غنمه ومن سمانها، فنظر الله الى هابيل وقربانه، ولم ينظر الى قايين وقربانه، فاغتاظ قايين جداً وسقط على وجهه وأخذ يخطط لقتل أخيه.

لقد كان قايين أول مخلوقات البشرية في العالم ممن يولدون طبيعياً، دعته أمه حواء بهذا الاسم، بعد أن عرف أدم حواء، حبلت وولدت قايين: “اقتنيت رجلاً من عند الله، ثم عادت فولدت أخاه هابيل، وكان هابيل راعياً للغنم،وكان قايين عاملاً في الأرض” ( تكوين 4: 2) .

ان اسم قايين يعني الاقتناء، اي ان حبه للحياة كان يدفعه للحصول على كل شيء فيها، اما اسم هابيل الذي لم تهتم امه بإطلاق اسمه عليه. إن مصدر هذه الاسم اللامبالاة وعدم الاكثراث، فصبغته والدته بصبغة الضعف وعدم الاكتراث.

امتهن قايين مهنة الزراعة حيث كان انحصارها في الفلاحة والحصاد وما يرافق ذلك من عمل موسمي، طبيعتها الخمول والكسل والاهمال. تماما عكس مهنة الراعي التي كان يزاولها هابيل حيث الانفتاح والتنقل والتأمل بالطبيعة.فالاسم يؤثر سلباً أوايجابا في طبيعة حياة الانسان فإن اختيار اسماء الآباء لأبنائهم له عظيم الأثر في تركيب حياتهما .

من الاسباب التي ادت الى اقدام قايين على قتل اخيه هابيل، المنطقة التي عاش فيها الاخوة شرقي جنة عدن، “بلاد ما بين النهرين” ، والتي تعرف بأرض شنعار سابقاً، هذه المنطقة المعروفة بجوها الحار الصحراوي ، الذي يؤثر في طبيعة الانسان النفسية، الأمر الذي يؤثر على مزاجية الانسان فيجلعه سريع الغضب.

ان ماملكه هابيل من صفاء الذهن النابع من مهنته التي فتحت مداركه، جعلته يقدم قربانه لمولاه من أبكار غنمه وسمانها أما التفكير المحدود الذي راود قايين، هو أن الله موجود في الجنة فقط، وحين طرد الله والده آدم منها، كان يعتقد بأن الله لا ينظر الى ما يحدث خارجها،وحين قتل أخاه سأله المولى :

“أين هابيل أخوك ؟ أجابه : لا أعلم أحارس.. انا لأخي؟!!” ( تكوين 4: 9)

يعلم الله بما فعله قايين لأخيه، وعندما سأله اين هابيل اخوك؟ كان الهدف من سؤاله هذا، أن يعطيه حق الدفاع عن نفسه، قبل ان يصدر اي حكم عليه مهما كان نوعه، والاستفسار عن مجريات الحدث من كلا الطرفين الغادر وهو قايين والمغدور به هابيل الذي توكل رب العالمين محامي الدفاع عنه .

وعندما أجاب قايين المولى: لا اعلم ! احارس أنا لأخي؟ جوابه هذا ان دل على شيء فانما يدل على الغباء، وانكار فعلته الشنيعة بقتل أخيه هابيل. هنا أجابه المولى: وماذا بذاك الدم الذي يصرخ من الأرض، اليس هو صوت دم اخيك صارخ الي من الأرض؟

حين سأل المولى قايين: ” ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ لي من الأرض؟” ( تكوين 4: 10)  الشريعة هنا لم تقل ان الصراخ أتى من الروح أو من القلب أو من الجسم، بل جاء الصراخ من الدم، دم هابيل الذي روى الأرض، جاء في الأية التوراتية: الدم هو النفس “كي هدم هو هنفش”.

ولما كانت الاثبتات دامغة ولا غبار عليها، أنزل المولى حكمة في هذه القضية قائلاً: ” فالآن ملعون انت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك، صارخ الي من يدك. متى عملت بالأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائها وهارباً تكون في الأرض. (تكوين 4: 12ـ 11)

هنا جاء اعتراف قايين بفعلته الشنيعة بقتله لأخيه، تَمثّل هذا الاعتراف بقوله لربه: “ذنبي أعظم من أن يحتمل. انك قد طردتني عن وجه الأرض، ومن وجهك اختفي واكون تائها وهاربا في الأرض. فيكون كل من وجدني يقتلني”. ( تكوين 4: 14-13)

قال الله لقايين” لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك؟ ان أحسنت أفلا رفع؟ وان لم تحسن فعند الباب خطية رابضة. اليك اشتياقها وانت تسود عليها. وكلم قايين هابيل اخاه لنذهب الى الحقل وحدث اذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل اخيه وقتله.” (تكوين 4: 8-6)

نوعية الاداة التي استخدمها قايين لقتل أخيه هابيل، كانت عبارة عن حجر مدبب الرأس، كان يستخدمه الانسان الأول من اجل الدفاع عن نفسه، ضد الحيوانات المفترسة في ذلك الوقت، اذ لم يكن وقتئذٍ سكين، لعدم معرفتهم لمادة الحديد بعد، وكذلك لم تكن عملية القتل بواسطة سهم، لأن قايين قام على اخيه في الحقل وقتله. والقتل هنا تم عن قرب وعن غدر وعن تخطيط مسبق.

السؤال هنا في كلتا الحادثتين كان عقاب على اعمالهم وأفعالهم من طرد وتشريد، بأن انزل عليهم لعنة الأرض، وان جاءت مثل هذه اللعنات مختلفة ومغايرة عن بعضها البعض .

جاءت لعنه الأرض على قايين اشد واقسى: ملعون انت من الأرض وجاءت لعنة الأرض على آدم : ملعونة الأرض بسببك.

إن شدة وقسوة اللعنه تجاه قايين كانت اكثر شدة وقسوة وصرامة، كون هذه الحاثة وقعت دون مبرر، قتل اخ لأخيه. لا لشيء سوى ان الله قبل قربان هابيل ورفض قربان اخيه قايين، ولم ينظر اليه , لذلك حكم الله على قايين بأن يكون تائها وهاربا في الأرض كل الوقت.

أما  طرد أدم من الجنة الى الشرق بلاد شنعار (العراق) فقد كانت صعبة للغاية، لكنها ليست بمستنوى شدة وقسوة لعنه قايين. لقد كانت ارادة الله هنا من اجل اعلام البشرية جمعاء ان الحكم يجب أن يأتي وفق كبر عظمة الذنب والجرم والخطيئة.

ان الذنب الذي اقترفه قايين بحق أخيه هابيل اعظم من ان يغتفر، ولكن اذا حكم الله عليه بالموت فان عذابه سينتهي بلحظة، لكن الله جعل منه عبرة للمذنبين القتلة والمخطئين االمجرمين، لذلك حكم عليه المولى بان يبقى خائفا ومرعوبا طوال حياته، وحتى من اهتزاز اوراق الشجر عندما تلمسها نسمة ريح اوهواء، ان ذلك الخوف الذي عاش به، كان وقعه على نفسه أصعب من الموت بكثير .

وحتى يعيش قايين كل الوقت تائها وهارباً. وليكون قايين عبرة لكل من يشاهد العلامة التي جعلها الرب على جبينه لكي لا يقتله كل من وجده ؟؟

” قال له الله : كل من قتل قايين فسبعة اضعاف يُنتقم منه . وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده. فخرج من لدن الله، وسكن في أرض نود شرقي جنة عدن”.(تكوين 4: 16-15)
ان الحياة التيه والتشرد أصعب بكثير من الموت الذي كان ينتظر هذا الانسان الذي قتل اخيه. لذلك توعد الرب من يقوم بقتل قايين قانه سينتقم منه سبعة اضعاف. لأن الموت تسليم الانسان ودائعه ليذهب الى عالم آخر. ولكن ان يبقى تائها ومشرداً، فهو بذلك يموت كل يوم.

صراع الأخوة هذا، كان صراعاً بين الخير والشر، دونه المولى في شريعته المقدسة عبرة وعظة، لكي تعلم البشرية جمعاء، بأن من يأخذ يجب عليه أن يعطي، ومن يزرع خيرا يجده، ومن يزرع شوكا يحصده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *